"الكوليرا وكورونا"

"الكوليرا وكورونا"
2020-03-26
معتز الهويمل
ن.ب

سما الاردن | كنتُ بالأمسِ في محاضرةٍ- التَّعلُّم عن بُعد- في مادةِ الأدبِ العربي الحديث، حيثُ تحدَّث الدِّكتورُ فيها عن الشعرِ الحرِّ وكانت قصيدةُ الكوليرا للشاعرةِ العراقيَّة نازك الملائكة نموذجًا، ولا أُخفي أنني في بادئ الأمرِ كنت أشعرُ بالضَّجَرِ من الحضور-لكوني ليس على درايةٍ كاملةٍ في كيفيَّةِ استخدامِ التَّطبيقِ وليس هناك الجَّو المهيأ للتعلُّم عن بُعد-، وأراقبُ الساعةَ متى ينتهي وقتُ المحاضرةِ-قبل أن تبدأ-؛ لأخلدَ للنومِ كما العادةِ التي تعوَّدتها في فترةِ الحجر، أحضرتُ دفتري وابتعتُ قلمًا؛ لعلَّني أُدوِّنُ ما يناصرني في تحصيل علامة اعتدتها.

أخذ الدكتور يرصدُ انضمام الطلبةِ لحلقةِ التعلمِ الإلكتروني، ومن ثمَّ أخذَ يعرِّفُ في الشاعرةِ وقصيدةِ الكوليرا وبيَّن أنَّ الكوليرا مرضُ حُمَّى قد أصابَ قريةً في مِصر، سُكَّانُها يقطنون الاكواخ والكهوف-حياةٌ صعبة-، شدَّني الحديثُ عن المرضِ حتى بدأ الدكتور في الشَّرحِ وتحليلِ القصيدةِ بكلِّ جوانِبها حتى تمنَّيتُ لو أن تؤجَّل هذه القصيدة حتى يعود التعليمُ عن كثب، فمثلها يُحبَّذُ أن تتفاعل معها بكلِّ حواسِك، غاصَ الدكتور في شرحِ القصيدةِ التي ابدعت الشاعرة في انتقاءِ صِورها الفنيَّة وتشبيهاتِها وما احتوته من انزياحاتٍ تصوِّر لك الحال كما أنك تشاهدُ فيلماً، حتى زادَ تفاعلنا معه.
تدورُ أحداثُ القصيدةِ حولَ مرضٍ- الحُمَّى- تفشَّى في مِصر وبدأ يقتلُ الكبيرَ قبل الصغير، لا حولَ لهم ولا قوةَ فيه، مرضُ الحُمَّى توغَّل ودسَّ أنيابَهُ في سكَّانِ القريةِ حتى لم يعد يُسمع في قريَتِهم سوى صوت النِّواحِ وتكبيراتِ المؤذِّن لصلاةِ جنازةٍ واحدة تلو الأخرى، نجحتْ الشاعرةُ في أن تصوِّرَ المشهدَ بحزنهِ وقسوته، الفجرُ الذي طالما ما عهِدناهُ في القصائدِ العربيَّةِ رمزٌ للنورِ والتفاؤلِ والأمل، باتَ أهل القريةِ يرونَه كرمزٍ للظلامِ واليأسِ ورافدٍ للحزنِ الأعظم، ذلك في قولها:
طلعَ الفجرُ
اصغِ إلي وقعِ خُطى الماشين
في صمت الفجر، أصِخْ، انظر ركب الباكين
عشرةُ أموات، عشرونا
لا تُحصِ، أصِخْ للباكينا 
اسمع صوت الطفل المسكين
موتى، موتى، ضاع العدد
موتى موتى، لم يبقَ عَدْ

هنا تُجسِّدُ صورةَ الفجرِ بظلامهِ ويأسِه وما يحمِلُ من معانٍ حزينةٍ تعودُ على أهلِ القرية، هم يعيشون اسوأ أيَّامَهم، تِعداد الموتى يزداد، لم يبقَ مجالٌ لعدِّهم، خرج الأمرُ عن السيطرةِ وتركوه لله.
هذهِ صورةٌ طِبق الأصل لما نراهُ ونعاصرهُ في واقعنا الحالي، فايروس كورونا "covid19"- عافانا الله وإياكم منه- الذي تفشّى بالعالمِ وباتَ يقتلُ الكِبار في العمرِ حتى نراه اليومَ يتمرَّدُ على الأطفال-الطفلة الإيرانية التي انتشرت صورها في مواقع التواصل الاجتماعي. قصيدةٌ رأيتُ فيها واقعَ حالنا وكأنها كُتبَتْ لهذا اليوم، العالم أجمع يعاني، في المقطوعةِ السابقةِ تراها وكأنها تصفُ حالَ إيطاليا وتزايدِ أعداد موتاهم بسبب الفايروس- كورونا-، تراهم ينقلونَ الموتى في شاحناتٍ، صورةٌ يمكنُ لك أن تسمعَ صوت الحزن فيها.
ظهرَ عندهم ما أسموه "بطِبَّ الحرب"، أي أنهم أصبحوا يعالجون المرضى بحسب العمرِ، فباتوا ينزعون الأجهزةَ من على كبارِ العمرِ لمن هم أصغرُ سنًا والأملُ في شفائهم؛ لأن عددَ الحالاتِ عندهم أصبح يفوقُ عدد الأسِّرةِ في مستشفياتِهم، تراهم يُكدِّسون المرضى بجانبِ بعضهم؛ ليستطيعَ المستشفى استيعابَ أعدادهم، الأمرُ خرجَ من سيطرتِهم، تركوه للسماء.
في إسبانيا بدأوا باستخدامِ ساحةٍ التزلُّجِ في العاصمةِ مدريد، كمكانٍ يحفظون به جثثَ الموتى جرَّاءَ المرض، المرضُ انتشرَ بينهم والحالاتُ المسجَّلةِ في تزايد. الفايروس أخذَ من العالمِ ما أخذ ولا يزال يستيقظُ كلَّ يومٍ بوحشيَّةٍ أكثر.

والقصيدةُ هي إنسانيةٌ فجائعيةٌ بامتياز، تتمحورُ ثيمتها الأساسيةِ حول مرضِ الكوليرا الذي أنشبَ أظفاره بقرية مصرية، القصيدة إنسانية؛ لأنها تتحدث عن مرض عبّد أرصفة الفقد والموت والحزن، فضلاً عن أنَّها قوميةٌ تشعلُ اللظى في قلوبِ العربِ وجعاً على "أم الدنيا "، وهذا ما نلحظه في كورونا الذي داهمَ العالمَ كموجٍ غاضب يلطم كل ما أمامه بجنونٍ، فترى الناسَ "صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية "، فالجميع يشكوا الكَلْمَ نفسه، الجميع يشكوا الحجر الصحي وما سبَّبه من تعطُّلٍ في حركةِ الحياة، ناهيكَ عن الخسائرِ التي ألحقها بتجارِ البلدِ وانخفاضِ اقتصادها، علَّ الكثير منا أثناءَ فترةِ الحجرِ راجع نفسه وبيَّن كم نجاحٍ حقق، وكم إخفاقٍ تجرَّعَ مرارته، منَّا مَن كسِبَ رؤية العائلة، وآخرون فاتَتهم تجربة الحجر، تمرَّدوا عليه وخالفوا التعليمات.
الحجرُ مرعبٌ للغاية، ترى البلاد خاويةً تسمعُ أنين الحزنِ في شوارعها وترى ملامح التعبِ واضحةً في زِقاقها، ألأعمدةُ انطفأت وكأنها على حِدادٍ حتى عودة الحياة كما هي، صراخُ الأطفالِ في الحاراتِ اضمحل، بائعو الخضرةِ والخردواتِ ركنوا سيَّاراتِهم وغدَوْا يَرقبونَ الأحياءَ بخوفٍ منها عليها، الشوارع ظمأى لداعِسيها وضجَّةُ السيرِ وتخبُّطِ السياراتِ فوقها.
حزينٌ على البلاد ورؤيتها، أتلافى مشاهدتها لما هي عليهِ من انتكاسٍ وحزن، الحجر غدا غيمةً، نترقَّبُ متى زوالها.
وترى الشعبَ متفِقاً على قولِ حبيب الزيود:
وهذه الأرضُ لو من قِلِّةٍ هلَكتْ
فنحن بالحبِّ لا بالمال نحييها

ولكن أخوتي دعونا نحتفي بهذه الحياةِ المليئةِ بالجمال، فهذه غميةٌ عابرة بإذن الله، نعيدُ التفكيرَ بهذا العالم وارواحنا وانفسنا، نفكِّرُ بمحدوديةِ العالمِ مهما علا من العلم، فالعالمُ أجمع لم يصل إلى علاجٍ لهذا العدو المختفي، نعيد طرحَ اسئلة الوجود على أنفسنا، كيف للإنسان أن يقاتل عدو مختفٍ، كيف يجهز الأنسان عدته للطوارئ. 

تعليقات القراء

  • -

    ما شاء الله كتابتك رائعة..واللهم يشفي كل مصاب ويساعدنا بهالمحنة ان الله على كل شيء قدير

  • ابداع صديقي. اتمنى لك المزيد من التفوق والتقدم

  • و الحل الأول و الأخير كن واثقا بالله

تعليقات القراء

  • -

    ما شاء الله كتابتك رائعة..واللهم يشفي كل مصاب ويساعدنا بهالمحنة ان الله على كل شيء قدير

  • ابداع صديقي. اتمنى لك المزيد من التفوق والتقدم

  • و الحل الأول و الأخير كن واثقا بالله