الصراع الطائفي لا ينتهي بالاعتذار.. بل بالإنصاف والمصالحة

تأخرت كثيرا عن مشاهدة فيلم "القضية 23" لمخرجه زياد الدويري والذي رشح لجائزة أوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية، وأثار جدلا واسعا في العالم العربي.
2018-08-23

تأخرت كثيرا عن مشاهدة فيلم "القضية 23" لمخرجه زياد الدويري والذي رشح لجائزة أوسكار عن فئة الأفلام الأجنبية، وأثار جدلا واسعا في العالم العربي.

لا يزال فيلم "القضية 23"، رغم مرور وقت طويل على أول عرض له، عرضة للتجاذبات والآراء.

الفيلم، من أول دقيقة حتى نهايته، "خلافي" بكل ما تعني الكلمة، سواء على مستوى المحتوى والسيناريو الذي يطرحه، فالتنظير للتسامح والسلام لا يجد قبولا عند البعض، أو لجهة شخصية المخرج الذي يتهمه البعض بتزوير حقائق تاريخية.

أجيز عرض الفيلم في الأردن شريطة حذف 6 دقائق من السيناريو التي تتحدث عن أحداث أيلول/سبتمبر 1970، واعتبر مدير هيئة الإعلام محمد قطيشات في أحاديث صحفية له حين ذاك "أن المشاهد المطلوب حذفها فتنة تهدد النسيج الوطني".

لم يعرض الفيلم في دور السينما في الأردن لأن المخرج أصر على ألا يتم إلغاء أي مشهد من الفيلم، وبغض النظر عن السردية التي قدمها مخرج الفيلم وكاتبة السيناريو جويل توما، فإن الفيلم تعرض أيضا لعاصفة اتهامات في فلسطين بعد أن قررت بلدية رام الله عدم عرضه لأن مخرج الفيلم متهم بالتطبيع مع إسرائيل، وذلك في إشارة وتذكير لفيلمه "الصدمة" الذي صور أجزاء منه في أراض فلسطينية محتلة.

يتفق المؤيدون والمختلفون مع الفيلم، الذي رشح للأوسكار وفاز بطله الفلسطيني ياسر سلامة واسمه الحقيقي كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية، على أنه عمل فني متميز، تمثيلا، وتصويرا، وأداء، وإضاءة، وصوتا، لكن "الشيطان" يكمن في تفاصيل السيناريو والرواية التي يقدمها للحرب الأهلية في لبنان وللقضية الفلسطينية.

قصة الفيلم ونص الحوار الجريء بين أبطال الفيلم، وأبرزهم طوني حنا "عادل كرم" المسيحي الموالي للقوات اللبنانية والمتأثر بخطابات وشخصية الزعيم والرئيس اللبناني الذي اغتيل بشير الجميل، تقود إلى الأطروحات أو الفرضيات التي بني عليها الفيلم.

لخصت محامية ياسر سلامة العناوين الأساسية لهذه المحطات التاريخية بقولها في الجلسة الأخيرة للنطق بالحكم "ملف القضية لم يغلق ومرتكب الجريمة لم يحاسب"، ليجيب محامي طوني بالقول "القضية جرح قديم لا يزال مفتوحا، ولا أحد يحق له احتكار المعاناة".

عاب كثيرون على المخرج الدويري اختزاله لقضية فلسطين والحرب الأهلية بضرورة الاعتذار، والتساؤل الذي طرح هل تحل قضايا التاريخ والاحتلال وجرائم الحرب والمذابح "بالاعتذار"، وعفا الله عما سلف، وهل المحرك لجدلية الصراع بين طوني المسيحي اللبناني، وياسر الفلسطيني المسلم عنوانها الانتقام؟

في الفيلم ما يفجر الصراع اللبناني الفلسطيني الكامن. تبدأ الحبكة بالتبلور عندما يلقي "مزراب" ماء بأوساخه على المارة ويرفض طوني الامتثال للقانون، مما يستفز ياسر وينعته "بالعرص"، وتتصاعد الأزمة برفض ياسر الاعتذار "رغم رغبته بذلك". ينهال طوني عليه بشتائم كانت المفصل الأساسي في الفيلم حين قال له "يا ريت شارون محاكن عن بكرة أبيكن"، فيشتعل ياسر غضبا ويضرب طوني ويكسر له ضلعين.

بعد هذه الحادثة تنتقل قصة الفيلم إلى أروقة المحاكم، وتصبح مرافعات المحامين وتعليقات القضاة فرصة لتمرير المواقف السياسية والروايات التاريخية، فتارة تسمع خطاب لبشير الجميل يقول "الفلسطينيون مرفوضون في لبنان، فليتحدوا مع الأردن، أو يذهبوا لإيران.. المهم أن لا يبقوا هنا"، أو تسمع بحديث عن المخيمات خارج سلطة الدولة اللبنانية، أم حين يتهم طوني القاضي بالفساد لأنه منحاز للفلسطينيين، ويكتفي بالصراخ "ليتني فلسطيني" في إشارة إلى أنه يأخذ حقوقا أكثر من اللبنانيين في بلدهم.

ثنائيات ضدية يطرحها الفيلم، البعض يعتقد أنها أثرت السيناريو، وآخرون يجدونها سطحية. فمحامي طوني يتواجه مع محامية ياسر ويتضح في مفارقة بالمحكمة أنهما "أب وابنته"، وحين يشتد الحوار بينهما ترد المحامية الابنة على أبيها المحامي المتعصب للمسيحيين أنها "لم تترعرع بالحرب"، أي لا يجوز للأبناء أن يدفعوا ثمنا لحرب لا علاقة لهم بها.

ومن الثنائيات (ياسر المسلم وزوجته مسيحية)، وصاحب عمل ياسر المسيحي يكون ضد عمله لأنه مسلم، ثم ينقلب فجأة ليعلن أن كل من يدعم القضية الفلسطينية عليه أن يدعم ياسر سلامة في استثمار وتسييس لقضيته في الانتخابات البرلمانية.

قررت المحكمة الأولى عدم إدانة ياسر سلامة، وبعد جلسات متعددة أثارت الرأي العام وأدخلت لبنان في أتون حرب قررت محكمة الاستئناف أن سلامة غير مسؤول عما جرى، وسياق الفيلم يوحي برسالة واضحة "كل من طوني وياسر ضحايا، فالمسيحي طوني ضحية الحرب الأهلية والمجزرة التي ارتكبت بقريته الدامور عام 1976، وياسر الفلسطيني ضحية الظلم العربي له في كل مكان، والاحتلال الإسرائيلي الذي شرده من أرضه.

النتيجة التي خرجت بها أن الجميع ضحايا، ولهذا يسدل الستار على الفيلم بنظرة تسامح بين طوني وياسر بعد خروجهما من المحكمة، فبعيدا عن المحكمة كان ياسر يسمح طوعا لطوني أن يضربه ويكسر ضلعيه بعد معرفته بالمجزرة التي تعرض لها أهله وبذلك يصبحوا متعادلين أي "صافي يا لبن".

ربما ليس مطلوبا من السينما أن تحل مشكلة التاريخ، وأن تقدم إجابات لأزمات مستفحلة، وأن تهدد الكاميرا وجود المحتل، أو أن تجيب بشكل جلي عن سؤال: من هو الظالم ومن هو المظلوم، لكن الاعتراض ربما يكون محقا حين تمرر أخطاء تاريخية أو ينتزع الحدث من سياقه التاريخي، أو تختزل المأساة بنهاية رومانسية حالمة واعتذار في القلوب؟

الفيلم اقتحم عوالم موجعة لم يقتربوا منها، والاجابات لا تحتاج فقط فيلم القضية 23، بل ربما وثائقيات كثيرة وقد تعجز عن البوح بكل شيء!

تعليقات القراء

تعليقات القراء