الخيارات الإستراتيجية للأردن- ملف سوريا

0

بقلم: نضال فيصل البطاينة

دخلت الحرب السورية في منعطف جديد، عنوانه السرعة والمفاجأة وتبدل المواقف الدولية بتبدل المصالح، وكذلك غياب المشروع العربي المشترك في ظل تنافس ثلاثة مشاريع عالمية وإقليمية قد تلتقي او يلتقي إثنين منها، فالجميع يتعامل مع الأمر بأنه موضوع وجود بإستثناء أشقائنا العرب الذين يصروا ويريدوا عدم التعامل معه بهذا الشكل، وعليه لن أتطرق بهذا المقال إلا للمصلحة الأردنية العليا لأن “الأردن أولا” في ظل غياب مشروع عربي وبالتأكيد فلسطين سوف تبقى البوصلة لأن الأردن لا يمكن المزاودة عليه بهذا الشأن.

لقد سيطرت الفصائل المسلحة على سوريا بعد انهيار نظام الأسد، حيث نجحت العمليات العسكرية لفصائل المعارضة في السيطرة على كامل القطر السوري، حيث تشير البيانات الصادرة في وقت متأخر من فجر اليوم عن هيئة تحرير الشام المُعارضة لنظام الأسد بأنها أحكمت قبضتها على دمشق وبالتالي خروج الأسد من المشهد.

حيث استغلّت الفصائل المسلحة الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه انسحاب قوات حزب الله في الأسابيع الماضية، والتي كانت تقدّم الدعم والاسناد للقوات النظامية، حيث أشارت الأحداث المتسارعة إلى قصور قدرة إيران وعبر وكلائها في المنطقة على ملء الفراغ الذي كان يملؤه حزب الله، نتيجة عدة عوامل أبرزها ضعف القدرات القتالية للمليشيات مقارنة مع قدرات حزب الله.

الأردن الذي ما زال يعاني من تبعات اللجوء السوري، وتراجع الدعم الدولي وتعهدات دول عدّه لدعم الأردن جرّاء استضافة اللاجئين السوريين قد تجد ضالتها بعد إعلان القوى المسيطرة عن ترحيبها بعودة اللاجئين السوريين ، ومن جانب آخر فإن الهاجس الأمني يلقي بظلاله، خاصة وأن الحدود الأردنية السورية غير منضبطة من الجانب السوري، وتتسارع عليها الأحداث من ميليشيات مسلحة هدفها خلق خواصر رخوة على الشريط الحدودي، في محاولة نقل الأزمة -لاقدّر الله- إلى الداخل الأردني، وهذا ما يستدعي الوقوف على الخيارات الأردنية وطريقة التعاطي مع الأزمة القديمة المتجددة في سوريا خاصة بعد تغير النظام الحاكم فيها.
في سياق تفسير المعطيات الجديدة على الساحة السورية، فقد عانى النظام السوري من إرتهان قراره السياسي نتيجة توسّع التأثير الإيراني والروسي والأمريكي على نظام الأسد، وذلك في محاولة لتقزيم دور النظام لمكتب تنسيق أمني لا أكثر، ومحاولة تحويل سوريا لجغرافيا تتناحر عليها المعسكرات، وتحول فيها نظام الأسد من لاعب في المعركة إلى متفرّج، وأرضيته كملعب تتصارع عليه المشاريع الإقليمية، حيث يمكن تقسيم القوى في سوريا إلى ثلاثة معسكرات أو ثلاثة مشاريع، فالأول صهيو-أمريكي، والثاني المشروع التركي، والثالث مشروع الممانعة (الروسي-الإيراني والمليشيات المدعومة منهم)، ولذلك علينا أن نفهم ديناميكيات تحرك هذه المشاريع ومراقبة تفاعلاتها للتوصّل إلى تفسير حقيقي ومنطقي يُبنى عليه في اتخاذ القرارات الإستراتيجية للأردن.

أولا: المشروع الصهيو-أمريكي: حيث تمتلك أمريكا 17 قاعدة عسكرية بالإضافة لعدد مماثل من نقاط المراقبة العسكرية على الأراضي السورية، حيث ما زالت تسعى إسرائيل على تصعيد الأزمة في الداخل السوري، وذلك لوقف التمدد الإيراني-الروسي على الجبهة السورية، ومن ثم تحييد ساحة سوريا ضمن محور المقاومة أو الممانعة، وبالتالي تتعامل مع كل ساحة على حده، وذلك لتجفيف منابع الخطر الوجودي على إسرائيل -من وجهة نظرهم-، وأعتقد أن إسرائيل وأمريكا لن تتدخلا بشكل مباشر طالما لم تتعرض مصالحها الأمنية للتهديد المباشر، وكما قال إسحاق شامير ذات مرة أثناء الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن العشرين ــ عندما كان اثنان من ألد أعداء الدولة اليهودية يُضعف كل منهما الآخر ــ فإن إسرائيل تستطيع أن “تتمنى النجاح لكلا الجانبين”.

ثانياً: المشروع التركي: تمتلك تركيا 12 قاعدة عسكرية، وما يفوق 90 نقطة مراقبة داخل الجغرافيا السورية، حيث تنظر تركيا إلى الجغرافيا السورية جيو-إستراتيجياً كمنطقة مهمة للتوسع وأيضاً كمنطقة غنيّة بالثروات التي تصل إلى تركيا عن طريق المليشيات المسلحة وداعش بأبخس الأثمان، فالنظرة الاقتصادية تأخذ جانب إستراتيجي مهم في المشروع التركي، بالإضافة إلى أن تركيا تعاني من تبعات اللجوء وبالتالي تعمل على صناعة جيوب عازلة في الداخل السوري بمحاذاة الشريط الحدودي لاحتواء عملية اللجوء وتخفيف وطأة وكلفة ذلك على بلدهم، بالإضافة لدخول المشروع التركي بمرحلة التربص ومتابعة النتائج في محاولة استغلالها لصالحه.

ثالثاً: محور الممانعة: تمتلك روسيا 21 قاعدة، وما يفوق 90 نقطة مراقبة عسكرية، وإيران تمتلك رقماً كبيراً، ولكن لا يمكن ضبطه نتيجة تداخل المليشيات وتعددها على الساحة السورية، حيث تسعى إيران ومن خلفها روسيا وعبر وكلائهم في المنطقة إلى نشر الفوضى، ومحاولة ردع وتحجيم الدور الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ونقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي على اعتبار أن إسرائيل تتعمد ذلك خلال السنوات الخمس الأخيرة على أقل تقدير، وباعتقادي أن روسيا قد تكون استخدمت ورقة سوريا في سياق حل الأزمة مع أوكرانيا، فإسرائيل وأمريكا يسعون إلى تجفيف منابع توريد الأسلحة إلى لبنان عبر سوريا، وفي المقابل فإن فلاديمير بوتين من الممكن أنه قام بتسويةٍ لصالحه في هذا الجانب، حيث أنه من المفارقة العجيبة سرعة وصول الفصائل المسلحة إلى دمشق، من دون وجود غطاء روسي يوفّر الحماية للأسد.

بإعتقادي فإن ما يحدث اليوم هو صراع لهذه المشاريع على أرض سوريا، وما يحدث هو إعادة تموضع وانتشار بين المشاريع الثلاث، فإيران تريد وضع اسرائيل ضمن هلال من الخطر عبر وكلائها هي المنطقة، شمالاً في جنوب لبنان ووسطاً من خلال سوريا، وجنوبا من خلال الفصائل المقاومة في جنوب فلسطين، وبالمقابل تسعى اسرائيل إلى تحييد ايران ومليشياتها بعيداً عن مناطق التهديد الاستراتيجي لها، حيث تتقاطع المصلحة في هذا السياق بين المشروع التركي والصهيو-أمريكي، إذ أن النظرة الإسرائيلية للدور تركيا كقوة عظمى في سوريا، كونها تقطع الهلال الشيعي إلى نصفين، فهذه المشاريع قد تتقاطع مصالحها ولكن بالتأكيد فإنها تتساوى بالذنب.

وبالعودة للخيارات الإستراتيجية للأردن على اعتبار أنه يمتلك شريطاً حدودياً طويلاً مع سوريا وعانت خلال السنوات الأخيرة من زيادة النشاط الجُرمي على الحدود، وتحوّل عمليات تهريب المخدرات إلى عمليات بدأت تأخذ الطابع الإرهابي، وذلك اعتماداً على نوعية الأسلحة التي يحملها المهربين، وهذا ما يجعل مسألة ضبط الحدود مهمة جداً، وبالتالي على الأردن تعزيز انتشار القوات المسلحة على الواجهة الشمالية وتطبيق قواعد الاشتباك دون تردد على كل من تسوّل له نفسه المساس بأمن المملكة.

الأردن وخلال السنوات الماضية عمل على سلسلة من الإجراءات من شأنها تصفير الخلافات مع الجميع، وأصبحت الأردن بنشاطها الدبلوماسي الذي يقوده جلالة الملك دولة غير خلافية في الإقليم، وقادرة على اتخاذ مواقف متباينة بعيداً عن مواقف المعسكر الشرقي والغربي، تكون مرجعيتها في القرار هو مصالح الأردن العُليا، ولكن يجب استغلال هذا الموقف وتقديم مبادرة عربية سريعة للوصول لتسوية سياسية ما في سوريا، وبإمكان الأردن أخذ زمام المبادرة وجمع الفاعلون في سوريا على طاولة الحوار، وذلك لضمان رأب الصدع ووحدة الجغرافيا السورية ومنع المشاريع الدولية من نيل مرادها بالتقسيم، حيث أن المصلحة الأردنية تتطلب أن تكون سوريا -والعراق أيضاً- مستقرّتين، إذ شكّلتا تاريخياً عُمقاً إستراتيجياً للأردن.

وباعتقادي فإن تعزيز الجبهة الداخلية مهم جداً في سياق دعم الجهود المبذولة من القيادة والمؤسسات العسكرية، وتخفيف حدة فجوة الثقة بين الشعب والحكومة، مما من شأنه أن يعزز صمود الأردن كما عهدناه كالصخرة التي تتكسر عليها كل المشاريع والمؤمرات الخارجية، وهذا يتطلب كما أسلفت في مقال سابق أن رجالات الدولة عليهم أن يكونوا مؤازرين وداعمين لرواية الدولة والاشتباك الإيجابي مع الشارع الأردني الناقم أصلاً، نتيجة الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمر بها الشعب، والدليل على ذلك نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة، ونتائجها أيضاً بحصول جبهة العمل الإسلامي على عدد أصوات قارب النصف مليون، وهذا لا يعني التوافق السياسي بين الشعب والجبهة، ولكن كما يقال “ليس حباً في علي، ولكن كُرهاً في معاوية”.

الخيارات الإستراتيجية للأردن من الممكن أن تتغير وتتكيّف بناءاً على السيناريوهات المفتوحة، سواء رحل نظام الأسد بشكله الحالي أو الوصول لصيغة تفاهمات خاصة وأن الفصائل المسلحة ترتهن لولاءات متعدده وتخدم مصالح من يدعمها ويمولها، أو إستمرار العمليات العسكرية بين المليشيات ببعضها، وبإعتقادي أن بقاء السيناريوهات مفتوحة على المُطلق قد يُعزز من الغموض الإستراتيجي الذي يستدعي أن يكون الأردن جاهزة لأي منها وتكييف خياراتها حسب المصلحة الوطنية العُليا.

الملف السوري يحمل من التعقيد الكثير، وتداخل القوى المتناحرة يزيد الأمور تعقيداً، فكل المشاريع تُراعي مصالحها، والكل خاسر وإن انتصر شكليّاً، (lose-lose situation)، ولكن على الرغم من كل هذا التعقيد نثق بقدرة الأردن وقواته المسلحة على التصدي لكل خطر، فالأردن قوي بقيادته وشعبه وأجهزته الأمنية.

حمى الله الأردن شعبا وأرضا وقيادة، وسياجنا قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *