"الخدمة العسكرية الجديدة"

"الخدمة العسكرية الجديدة"
2018-11-19
ياسين بني ياسين
إسراء زيادنة

سما الاردن | يتحدث الناس هذه الأيام عن نية الحكومة بإقرار خدمة عسكرية من نوع جديد تندرج ضمن إطار خدمة العلم، أو التجنيد الإجباري، أو التجنيد الإلزامي. ليكن الاسم مهما كان، فلن نختلف، لأن هذا ليس موضوع حديثي. بل إن حديثي سيكون، فيما أرى، محصورا بما هو أكثر أهمية من هذا وأكبر نفعا منه.

بادئ ذي بدء أود أن أتساءل عن مدى جدية الحكومة، في هذا المجال. فلئن كانت الحكومة جادة في الطرح، وهي نفسها التي فكرت في هذا المشروع، دون أن يفرض عليها من أي جهة كانت، ولأي سبب كان، فإنني أنصحها بالتريث والتأني ودراسة الموضوع من كافة جوانبه (أهدافه الحقيقية، والنتائج المرجوة منه، والتكاليف المترتبة على تنفيذه، والطروحات الممكنة للسير بالإجراءات المطلوبة لذلك، وإيجابيات كل منها وسلبياته)، ومن ثم اتخاذ القرار المناسب، في الإطار المناسب، في الشكل المناسب، في الوقت المناسب، لكي لا نكلف أنفسنا ما ليس بوسعها، وبعدها نحصل على نتائج غير محسوبة، وكذلك لكي لا نتحمل تبعات قرار خاطئ نندم عليه - كما ندمنا على كثير من القرارات الأخرى التي سبقت.

من بعد هذا أتمنى على من فكر بهذا الأمر، إن أصر على تنفيذه، أن يجيب على التساؤل التالي: ما هي الحاجة إلى مثل هذا المشروع، ونحن لسنا في حالة حرب؟

عند تنفيذ مشروع كهذا، فلا بد من وجود أسباب تستوجب ذلك. من هذه الأسباب، مثلا لا حصرا: 

- الدخول في حرب تستدعي تجنيد كافة طاقات البلد، ومنها البشرية، لمواجهة العدو.

- وضع اقتصادي متردٍّ لا يسمح بامتلاك قوات مسلحة نظامية.

- عزوف الشباب (وليس الشابات) عن الانخراط في سلك القوات المسلحة.

- عدم وجود حاجة إلى قوات مسلحة نظامية، لأن البلد آمن ولا يحتاج إلى كل هذه النفقات المترتبة على امتلاك قوات نظامية (برواتبها العالية نسبيا، وأسلحتها، ومعداتها، وإدامة كل هذه المتطلبات).

- عدم وجود بطالة في البلد، فلا حاجة للتجنيد النظامي كحل جزئي للمشكلة- مشكلةَ البطالة. 

نحن نمر بظروف اقتصادية ليس أصعب منها إلا الانهيار، لا قدر الله ولا سمح. وهذا المشروع سوف "يزيد الطين بلة"، كما هو الحال عند الحديث عن الحمولة الزائدة من المؤسسات المستقلة، والوزارات التي تقع خارج الحسبة والتي لا حاجة لها، ومشروع اللامركزية عديم اللون والطعام والرائحة، والمفاعل النووي الفاشل، ومشروع القمر الصناعي الذي يتحدثون عنه هذه الأيام، والترهل الإداري، والفساد المالي، التي بوجودها، مجتمعة أو منفردة، تُرهَقُ خزينة الدولة.

إن التكاليف السنوية المترتبة على إنفاذ هذا المشروع ستكون فوق قدرتنا على تحملها، أخذا بعين الاعتبار وضع الأردن الاقتصادي الصعب للغاية، والذي لا يخفى على أحد. فالرواتب (وإن كانت رمزية) والسكن واللباس والطعام والعلاج والنقل والتدريب متطلبات أساسية. وهذه كلها تحتاج إلى مبالغ طائلة، أخذا بعين الاعتبار الأعداد الضخمة التي ستكون مشمولة في هذا المشروع. ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يوجد بلد في العالم يجمع بين نظام الخدمة النظامية ونظام خدمة العلم إلا إذا كان هذا البلد متورطا في حرب تستدعي ذلك، وهي حالة مؤقتة مرهونة بالظروف القائمة، طبعا. وكذلك فإنه لا يوجد بلد في العالم يطبق نظام التجنيد الإجباري في الأجهزة الأمنية الأخرى.

وسوف يضاف إلى ما ذكرت من أعباء مالية أعباءٌ إدارية سيطلب من القوات المسلحة، بكافة فروعها، أن تتحملها في أثناء تنفيذ عملية التجنيد، وبعد ذلك الإشراف والإعداد والتهيئة والتدريب والتخريج والاستخدام، ومن بعد ذلك توثيق كل هذه الواجبات. وقد أوقف العمل بنظام خدمة العلم في مطلع التسعينيات من القرن الماضي لسببين رئيسين هما: انتفاء الحاجة والتكاليف الباهظة.

الأردن أصبح بلدا كبيرا من حيث عدد السكان، مقارنة مع أردن سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. لقد كان هذا البرنامج، - برنامج خدمة العلم - حملا ثقيلا عندما كان عدد أبناء الجيل الواحد من الذكور لا يتجاوز الألوف الثلاثين. فما بالك إذا كان عدد الذين تقدموا لامتحانات الثانوية العامة هذا العام مئة وستة وأربعين ألفا من الجنسين؟ وسيضاف لهم طبعا بنو جيلهم الذين لم يحالفهم الحظ في الوصول إلى هذه المرحلة الدراسية، وكذلك الذين درسوا في مدارس أجنبية ذات برامج مختلفة، والأردنيون الموجودون مع أولياء أمورهم خارج البلاد. والمعلومات المتداولة تتحدث عن شمول الذكور والإناث ضمن إطار هذا النظام.

الغريب في الأمر أن البعض يقرنون هذا المشروع بالبطالة، ويحاولون إقناع أنفسهم وإقناع الغير أنه سيكون له نتائج إيجابية على هذا الكابوس الذي يؤرق منام الجميع. وأنا لا أعرف كيف سيحصل ذلك، ونحن لدينا مئات الألوف من العاطلين عن العمل؛ وما لدينا من مؤسسات حكومية وغير حكومية لا تستوعب عشر معشار هذا العدد الضخم. أما إن كان التفكير به من أجل إيجاد وسيلة لتأهيل الشباب لإنشاء مشاريع خاصة، فهذا شيء يستدعي الاستهجان.

نعم! يستدعي الاستهجان وذلك لأن الشاب الذي سيمر بهذه التجربة لن يغادر الساحة، وإن غاب عنها مؤقتا، إذ سوف يعود إليها بعد أشهر معدودات. كذلك لن يُشطَب اسم هذا الشاب من سجلات طالبي الوظيفة في ديوان الخدمة المدنية، لأن ما سيمر به لا يدوم إلا لفترة قصيرة جدا في عمر الزمن. وبعد ذلك، وقبله أيضا، فإن المؤسسات التي ستحتاج إلى تأهيله الجديد معدومة أو شبه معدومة؛ وإن وجدت مثل هذه المؤسسات فإن طاقتها الاستيعابية محدودة جدا. ولا بد من التساؤل هنا: "لماذا حُلَّت مؤسسة التدريب المهني العسكرية، إن كان هذا هو الهدف؟"

ومما يلفت الانتباه هنا أن ما يتردد من حديث بين الناس عن نظام الخدمة الجديد يُفْهَم منه أن الإناث سيكُنَّ مشمولات فيه! وحسب معرفتي فإن القوات المسلحة لا تمتلك القدرة على تأهيل هذا العدد الهائل من الإناث في أي مهنة من المهن، وبخاصة منهن خريجات الجامعات، وأكثرهن كذلك. وكذلك فإن وضع المتزوجات من الإناث، والأمهات بشكل خاص، ومسؤولياتهن البيتية والأسرية، والنظرة الاجتماعية العامة لهذا، أمور تحتاج إلى وقفة مطوَّلة وحديث تفصيلي.

أما ما يردده البعض من أن الجندية ستهذب أخلاق الشباب وستعلمهم أصول الضبط والربط العسكري، فهذا الكلام ليس دقيقا، إذا أخذنا بعين الاعتبار عوامل عدة، منها قصر المدة التي سيقضيها الفرد في الخدمة العسكرية. كما أن هذا المفهوم يجب أن لا يكون هدفا استراتيجيا تحت أي ظرف، لأنه سيعني، ضمن ما يعنيه، أن الملايين السبعة الذين يعيشون في الأردن غير منضبطين. إن الأدب والانضباط والالتزام سمات يجب أن يُرَبَّى عليها الإنسان في بيته وبيئته، وإن ساعدت الجندية في تعزيزها في من تتاح لهم الفرصة أن يخدموا في السلك العسكري. والجنود النظاميون العاملون أولى بهذا الجهد وأحق به من سواهم.

هذا الهدف - الانضباطية - وأهداف كثيرة أخرى، يمكن تحقيقها لدى الشبيبة، ذكورا وإناثا، وتعزيزها في نفوسهم، بإدخال حصص خاصة لهذه الغاية في المنهاج المدرسي والمنهاج الجامعي، وضمن أسس مدروسة دراسة تفصيلية، شريطة أن يأخذ القائمون على الأمر باعتبارهم تنفيذ  متطلبات البرنامج بجدية متناهية، وذلك للحصول على الغاية المرجوة منه، وبأقل التكاليف والجهود الممكنة لكل الأطراف المعنية.

كذلك فإن المتقاعد العسكري، بالرغم من طول مدة خدمته العسكرية، وربما بسببها، ليس له ميزة على غيره من المتقاعدين من ذوي التخصصات والمهن الأخرى، ولا هو أقدر منهم على الانخراط في المجتمع المدني. وقد يكون العكس صحيحا، وإن كان لكل قاعدة استثناء. لكن هذا المستثنى قد يكون عسكريا في الأصل وقد يكون خلاف ذلك. والسمات الفردية هنا لها الاعتبار الرئيس.

القوات المسلحة الأردنية بحاجة إلى الدعم الحقيقي من كل المعنيين الموجودين في مواقع المسؤولية، وعلى مختلف مستويات مواقعهم. وهي كذلك بحاجة إلى إدامة رفع جاهزيتها القتالية، وذلك بمتابعة تطوير قدرتها وكفاءتها في مجالات التأهيل والتدريب والتسليح والانضباطية، وتحسين المرافق (كل المرافق)، وزيادة الرواتب، وتحسين ظروف المعيشة لكي تظل، كما هي دائما، حصن الأردن الحصين وسوره المنيع ضد كل التحديات. ومن هذا المنطلق، يجب عدم إشغال القوات المسلحة بأي جهود إضافية سوف تؤثر سلبا، لا قدر الله، على قدراتها في تنفيذ مهمتها الأساسية (الدفاع عن الأردن) وجميع الواجبات المتفرعة عن هذه المهمة النبيلة. أما إذا استدعت الضرورة فعلا، فالموقف والرأي سيختلفان.

والأردن الآن على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما "طريق النصر" الذي لا بديل له وإما "طريق النصر" الذي لا استغناء عنه!!!! 

تعليقات القراء

تعليقات القراء