أحرار في سجن اللغة 

أحرار في سجن اللغة 
2022-08-07
ن.ب

سما الاردن | الكاتبة آية العنزوق

من منا يعرف الفلسفة فهو يعرف الكثير عن تاريخ الدفاع المستميت للفكر البشري عن فكرة الحرية، تلك الفكرة التي تسكن خيالنا و تتميز بالندرة في واقعنا و التي تعد معضلة إبستمولوجية كبرى. لطالما كان العقل البشري مشغولا ببلورة أفكار و نظريات تسهل عليه فهم أسباب الوجود و ما قد يؤول إليه هذا الكون المليء بالأسرار، و لكن الحرية ليست فكرة تمت بلورتها أو إستنتاجا توصل إليه العلم الحديث و إنما هي من المسلمات التي يؤمن بها معظم البشر دون أي دليل ملموس يؤكد صحة هذا الزعم. و قد إمتلأ تاريخ الفلسفة عن آخره بنظريات و أطروحات فلسفية تجيب عن أسئلة وجودية في ما يخص الحرية، و من خضم هذا النقاش الفكري الذي طال سنوات عديدة ولد مبحث فلسفة الحرية حيث يؤمن أصحاب هذا التيار الفكري بأنه لا وجود للحتمية في ظل وجود إرادة حرة يتمتع بها الأفراد.

 إن الحرية - بمعناها الأكثر بساطة و شيوعاً - هي أن يتمكن المرء من فعل كل ما يريد، لكن هذا التعريف البسيط يفشل في تحديد منبع الإرادة لدى النفس البشرية و هو جواب يضعنا أمام تساؤلات أخرى؛ ماذا لو كانت إرادة الإنسان تسلبه حرية الإختيار و إتخاذ القرار؟ ماذا لو كان البحث عن الحرية صراعا أبديا بين العقل و إرادة النفس و شهواتها؟ هل من وجود لحرية مطلقة؟ و هل تعد حرية غير مطلقة حرية من الأساس؟ يقول الفيلسوف الفرنسي أندري لالاند: «إن فكرة الحرية المطلقة التي يمكن أن ننعتها بالميتافيزيقية، وخاصة في تعارضها مع الطبيعة تقتضي وجود فعل إنساني محرر من جميع العلل» أي أن الحرية المطلقة هي استقلال المرء في اختياره لفعل كل ما يريده و ترك ما لا يريده بغض النظر عن الظروف و الإكراهات الخارجة عن سيطرته.  

إن الإنسان و إن كان حرا فهو ليس مخيرا في كثير من الأمور، فهو يولد في ظروف تقيده و تحدد مساره في الحياة بشكل أو بآخر، و هو أيضا يعيش تحت سطوة القوانين و القيود الإجتماعية، و يعيش في سجن اللغة التي تحدد رؤيته للعالم و فهمه لما يجري حوله. و رغم كل هذا فإنني أؤمن أن الإنسان لا يمكنه أن يكون حرا إلا بوجود قوانين و قيود تمنحه حق الإختيار، فإما أن يحترم القوانين و يسير مع التيار و إما أن يتمرد على كل ذلك و يشق طريقه بعيداً عن كل ما يقيده. صحيح أننا نعيش تحت سطوة قيود كثيرة، لكن سجن اللغة الذي نولد فيه و لا نكاد نبرحه ليس بالضرورة سجناً يسلب منا الحرية المنشودة. يزعم البعض أن المعرفة اللغوية هي التي تمنح الإنسان الحرية في التعبير عن مكامن نفسه و إيصال صوته للآخرين و هو أمر صحيح إلى حد ما، لكن اللغة - أو بالأحرى التمكن منها- سجن يمنعنا من بلوغ قيمة الكونية و الحرية المطلقة لأن الكلمات أحيانا تخنق المعاني و تختزلها على عكس أدوات التعبير الأخرى التي تبقي أفق الفهم و التحليل مفتوحة على الدوام. و بالرغم من أن اللغة سجن للأفكار فإنها تمنحنا مساحة كافية من الحرية لكني نجد ذواتنا من خلالها و نرى العالم عبرها، يمكننا القول إذن أن للغة سطوة لا تسلب منا بالضرورة حريتنا الفكرية و الشخصية، تماما مثل القوانين الوضعية و المنظومات القيمية التي تجعلنا نفرق بين الصواب و الخطأ دون أن تجعلنا بالضرورة كائنات مسيرة بالكامل و خاضعة للحتمية.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الحرية مفهوم يختلف من ثقافة إلى أخرى، و من تيار فكري إلى آخر، فإذا كانت الليبرالية تحصر مفهوم الحرية في الحرية الشخصية و تتخذ السياسة وسيلة لحفظ الحقوق الفردية فإن الاشتراكية ترى أن حرية الإنسان تكمن في قدرته على المشاركة في عمل خلاق يجد فيه نفسه دون أن يحتم عليه هذا العمل أن يغترب عن ذاته و طبيعته البشرية أو أن يتم إستغلاله و تسخيره من طرف الطبقة الحاكمة لجلب الثروات و زيادة رأس المال. و في التيار الماركسي، لا يمكن للحرية أن تتحقق إلا في المجتمعات الشيوعية حيث تلغى الطبقية و يتحرر الإنسان من سطوة الرأسمالية و يتمكن من إختيار مساره في الحياة دون أن تتحكم فيه الفاقة الملحة للمال التي تدفعه أحياناً إلى البحث عن أي عمل كيفما كان و تسرق منه أحلامه و طموحاته و قدرته الطبيعية على الإبداع.

مهما إختلفت تصوراتنا للحرية و فهمنا لها، يمكننا كبشر قادرين على التفكير و البحث عن ذواتنا في هذا الكون الشاسع أن نتفق على أمر واحد ألا و هو أن الحياة رحلة نتعلم في خضمها العديد من الدروس، فلا يسعنا و نحن كائنات تتميز بالفضول و الحب المزمن للمعرفة سوى أن نبحر في أسئلة وجودية و نبحث عن أجوبة مقنعة لها، و حتى و إن كلل بحثنا المضني عن أجوبة الكون بالفشل فإننا نبقى كائنات محبة للحياة رغم قصور علمنا.

تعليقات القراء

تعليقات القراء